حوارات ومقالات

اتفاقية "سيداو".. مساواة متماثلة واختراق للمرجعية التشريعية

تشتبك اتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) عضويًا بالفلسفة الغربية الحديثة في نظرتها العامة للإنسان والكون، فبعد انهيار المرجعية الدينية الغربية الكنسية تحت طرقات العلوم التجريبية أصبح الدين عند البعض منهم جزءًا من التراث الغربي، ينضم للأساطير اليونانية والرومانية القديمة، وعند البعض الآخر تحول لهوية رمزية للشعوب الغربية، وعند آخرين وسيلة ابتزاز عاطفية لمشاعر العامة التي لا زالت تحوي مخزونًا عاطفيًا ونفسيًا ذا محتوى ديني، والأهم من ذلك كله أن الدين في العالم الغربي أصبح بالغ السيولة والتطويع لشتى المذاهب والأفكار، فحمل بأساطير سياسية صهيونية، واتسع ليشمل ويقبل بجميع الغرائز المنحرفة كمباركة زواج الشواذ مثلاً.
 
الفلسفة الغربية الحديثة بشتى مدارسها قطعت صلتها بخالق هذا الكون، وتمركزت حول الإنسان الغربي، الذي استبدل صراعه مع الآلهة في الأساطير القديمة بتحقيق النصر له وتوج نفسه إلهًا وسيدًا ومركزًا للكون، ومن ثم جعل من تصوراته للحياة وللكون مرجعيته العليا، بل سعى لفرض هذه المرجعية وجعلها مرجعية كونية.
 
وما اتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) إلا حلقة من حلقات هذه المرجعية التي يراد فرضها على البشرية جمعاء.
 
تماثل الدور الاجتماعي
 
تكمن خطورة هذه الوثيقة في أمرين: أحدهما يتعلق بطبيعة المجال الذي تخترقه، والثاني بآلية عملها. فالفكرة المحورية التي تدور حولها الوثيقة هي المساواة المتماثلة بين الرجال والنساء، والتي يعني أي انحراف عنها تمييزًا ضد المرأة، حيث تنص في مادتها الأولى على "لأغراض هذه الاتفاقية يعني مصطلح (التمييز ضد المرأة) أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس، ويكون من آثاره أو أغراضه توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في أي ميدان آخر، أو توهين أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها، بصرف النظر عن حالتها الزوجية وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل".
 
وتشمل هذه التفرقة أو التمييز كافة المجالات، فمثلاً أن ترث الابنة نصف نصيب أخيها بحسب الشريعة الإسلامية، هذا يعد تمييزًا وتفرقة في المجال الاقتصادي، ولكن تعجز بعض النسويات العربيات عن التصريح بذلك علنًا؛ خوفًا من إثارة الجمهور.
 
إلا أن أسوأ ما تنشده الوثيقة في هذا الصدد هو طلب التماثل الحرفي في الدور الاجتماعي داخل نطاق الأسرة، فبدلاً من قيم العدالة والتكامل المنبثقة من الدور الطبيعي والفطري والبديهي للزوجين، تنشد هذه الاتفاقية تماثل وتطابق هذه الأدوار، وهذا ما توضحه ديباجة الاتفاقية أشد الوضوح بقولها: "وإذ تدرك أن دور المرأة في الإنجاب لا يجوز أن يكون أساسًا للتمييز، بل إن تنشئة الأطفال تتطلب بدلاً من ذلك تقاسم المسؤولية بين الرجل والمرأة والمجتمع ككل. وإذ تدرك أن تحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة يتطلب إحداث تغيير في الدور التقليدي للرجل، وكذلك في دور المرأة في المجتمع والأسرة".
 
المساواة الظالمة
 
دور المرأة في الإنجاب هو الدليل الساطع على الفرق بين المرأة والرجل، وهو أمر لا يمكنهم حتى هذه اللحظة تجاوزه؛ لأن التدليل عليه يشبه التدليل على غياب الشمس في الظهيرة! ولكن السوفسطائيين الجدد يرون أن هذا الفارق البيولوجي لا ينبغي أن يترتب عليه أي تفرقة في الدور الاجتماعي، بمعنى أن يقوم الرجل بكل أدوار المرأة وتقوم المرأة بكل أدوار الرجل. وهم بذلك يظلمون المرأة أشد الظلم بينما يدّعون إنصافها، فهل من العدالة أن تُطالَب المرأة بالعمل على قدم المساواة أثناء فترة حملها، وتعلم النساء قبل غيرهن ما هي تجربة الحمل؟ سواء في شهوره الأولى أو في شهوره الأخيرة، تلك التجربة التي عبّر عنها القرآن الكريم بدقة لا تشعر بها غير النساء إنه {وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ} (لقمان: 14).
 
وهل من العدالة أن تترك الأم رضيعها وتتقاسم مسئولية العمل على قدم المساواة مع الرجل؟ وهل من العدالة أن يتم اقتسام مسئولية الرضيع بين الأب والأم على قدم المساواة؟ إننا نلحظ أن مستنقعات الفكر التربوي كله قد تجمعت في هذا النص منذ أفكار أفلاطون القديمة وحتى الأفكار الشيوعية البائدة، هذه المستنقعات التربوية ممتزجة مع واحدة من أهم إفرازات الحضارة الغربية الحديثة، وهي (الأنانية المتضخمة)، حتى أننا نلمح من خلال هذه الوثيقة أن التعامل مع الأطفال يتم كعبء ثقيل، ومسئولية سخيفة، كانت وراء تدهور منزلة المرأة عبر التاريخ، ومن ثم يجب عليها أن تتخلص من هذه التركة الثقيلة وتتقاسم مسئوليتها مع الرجل وفقًا لرؤية (سيداو).
 
عدالة التكامل
 
هل يعني ذلك أننا نرى أن المرأة هي المسئولة الوحيدة عن تنشئة الأطفال؟ بالطبع لا، وإنما هي المنظومة التكاملية التي ارتضتها البشرية منذ فجر التاريخ في خطها العام، وبغضّ النظر عن أي ممارسات استثنائية في الواقع العملي في الحياة وفي ديننا (يلاحظ قارئ الوثيقة التجاهل التام للفظ الدين والديني أو استخدامه دائما ممزوجا بالعادات والأعراف الباطلة وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن هذه الوثيقة أحد التجليات المادية للفلسفة الغربية) أقول في ديننا نرى الرسول صلى عليه وسلم وهو يعلّم ويهذب سلوك الآباء بتقبيل الأطفال واللعب معهم والخروج بهم للتنزه بل والذهاب بهم للمسجد لا يفرق في ذلك بين ابن وبنت، ولمن أراد المزيد من التوضيح فليراجع مواقفه صلى الله عليه وسلم من الحسن والحسين وأمامة وأبي عمير تماما كما كان في خدمة أهله ولكن هذا كله لا يعني مطلقا المساواة المتماثلة بمعناها الحسابي الذي يروج له في الوثيقة.
 
وإنما هو دور الأب المكمل لدور الأم في التنشئة، خاصة في المراحل العمرية الصغيرة، ذلك الدور الذي تصمه الوثيقة بـ "الدور التقليدي".
 
المساواة الاقتصادية
 
وإذا كانت الوثيقة وضعت المساواة في الدور الاجتماعي هدفًا، فإنها وضعت المساواة الاقتصادية وسيلة لهذا الهدف، وهي تروج بلا أدنى خجل للنظام الاقتصادي الرأسمالي المتوحش الذي تصفه بالنظام العادل، حيث جاء في ديباجة الاتفاقية: "وإذ تؤمن بأن إقامة النظام الاقتصادي الدولي الجديد، القائم على الإنصاف والعدل، سيسهم إسهامًا بارزًا في النهوض بالمساواة بين الرجل والمرأة".
 
ولنا أن نتساءل في دهشة بالغة عن أي عدالة يتحدثون؟ فهل تجريد المرأة من قيمة المهر الذي يقدم لها كهدية، وتعبير عن الحب، وحتى تطيب نفسًا في حياتها الزوجية الجديدة عدلة للمرأة؟ وهل تجريدها من حقها في النفقة الواجبة لها مقابل تفرغها للقيام بمهامها الزوجية ورعايتها للنشء من العدالة؟ هل ذلك كله من قبيل هذه العدالة السوداء التي يبشرون بها؟
 
في ديننا ترث المرأة ولا تطالب بالنفقة، وتحصل على المهر ويتوجب لها النفقة، وفوق هذا كله تستطيع أن تعمل عملاً اقتصاديًا يدر عليها دخلاً، بشرط ألا يؤثر ذلك على وظيفتها الأساسية في بيتها، وهي لا تطالَب بإنفاق شيء من ذلك كله وجوبًا وإنما الأمر يرجع لتقديرها الخاص {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} (النساء: 4).
 
فمن الظالم ومن المظلوم؟ وأين هي العدالة الحقيقية من المساواة العرجاء؟ وإذا كان هناك سوء تطبيق للنظام -وهو أمر وارد في أي تجمع بشري- فالواجب هو البحث عن آليات تصحيح الخطأ، وعلى المجتمع ككل تدشين مؤسسات تعني بحفظ حقوق النساء حتى لا يهينهن لئيم.
 
(سيداو) والمرجعية التشريعية
 
المساواة الحرفية هي الهدف من الوثيقة، بحيث يعتبر أي فرق بين الجنسين لونًا من ألوان التمييز المرفوض ضد المرأة، ولكن وثيقة إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة ليست مجرد إعلان مبادئ وأفكار، وإنما هي وثيقة أراد واضعوها لها أن توضع موضع التنفيذ، فتُضمّن في دساتير الدول وتتحول إلى قوانين، وتلغى أي قوانين تتعارض معها، وهذه هي آلية عملها الذي يضمن لمرجعية وثيقة (سيداو) أن تتحقق واقعيًا، وقد تناولت المادة الثانية من الوثيقة ذلك صراحة فنصت على: "تشجب الدول الأطراف جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وتوافق على أن تنتهج، بكل الوسائل المناسبة ودون إبطاء، سياسة تستهدف القضاء على التمييز ضد المرأة، وتحقيقاً لذلك تتعهد بالقيام بما يلي:
 
(أ) تجسيد مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية أو تشريعاتها المناسبة الأخرى، إذا لم يكن هذا المبدأ قد أدمج فيها حتى الآن، وكفالة التحقيق العملي لهذا المبدأ من خلال التشريع وغيره من الوسائل المناسبة.
 
(ب) اتخاذ المناسب من التدابير التشريعية وغيرها، بما في ذلك ما يقتضيه الأمر من جزاءات؛ لحظر كل تمييز ضد المرأة.
 
(ج) إقرار الحماية القانونية لحقوق المرأة على قدم المساواة مع الرجل، وضمان الحماية الفعالة للمرأة، عن طريق المحاكم ذات الاختصاص والمؤسسات العامة الأخرى في البلد، من أي عمل تمييزي.
 
(د) الامتناع عن مباشرة أي عمل تمييزي أو ممارسة تمييزية ضد المرأة، وكفالة تصرف السلطات والمؤسسات العامة بما يتفق وهذا الالتزام.
 
(هـ) اتخاذ جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة من جانب أي شخص أو منظمة أو مؤسسة.
 
(و) اتخاذ جميع التدابير المناسبة، بما في ذلك التشريعي منها، لتغيير أو إبطال القائم من القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات التي تشكل تمييزاً ضد المرأة.
 
(ز) إلغاء جميع الأحكام الجزائية الوطنية التي تشكل تمييزاً ضد المرأة".
 
 
* المصدر: موقع الراصد، 7/1/2016، بتصرف.
 
 
موضوعات ذات صلة:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

(16 موضوع)

كاتبة فى مجال الأسرة