بعد مرور أكثر من خمسة وثلاثين عامًا على إجازة الجمعية العامة للأمم المتحدة لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة "سيداو"، ما زال الجدال محتدمًا حولها، فهناك من يؤيد التوقيع عليها، وهناك من أبدى تحفظه على ما يخالف الشريعة الإسلامية من موادها، وهناك من عارض التوقيع على الاتفاقية بحكم أنها نصت في المادة (28) منها بأنه "لا يجوز إبداء أي تحفظ يتعارض مع روح الاتفاقية وغرضها"، مؤكدة في تفسيره بأن هذا النوع من التحفظ يخالف قاعدة أساسية من قواعد القانون الدولي، ولهذا فإنه يعتبر ساقطًا وباطلاً.
تعارض ديني واجتماعي

وقد أدخلت بعض الدول الغربية ما أسمته "الاعتراض" على مثل هذه التحفظات، وركزت في ذلك على تحفظات بعض الدول الإسلامية؛ بحجة أنها تتعارض مع روح الشريعة وروح الاتفاقية. علمًا بأن هناك اتجاه دولي عام لإلغاء تحفظات الدول.
لكل ذلك لابد من إخضاع هذه الاتفاقية للدراسة المتأنية والبحث الموضوعي المستفيض، ودراسة ما يمكن أن يترتب على التوقيع عليها من نتائج في المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية قبل اتخاذ قرار بشأنها. فالاتفاقية تحتوي على مواد يمكن أن تؤدي إلى تغيير جذري في النظام الاجتماعي، ومن بين موادها ما يتعارض - صراحةً أو ضمنيًا - مع الدين الإسلامي، فضلاً عن أن تطبيق بعض موادها يؤدي إلى نتائج سلبية غير مرغوب فيها، ويقنن بعضها الآخر لنشاط المنظمات الأجنبية ذات الأهداف المتعارضة مع مصالح الدول وأسبقيتها في الريف والمدينة.
إن غياب الرأي الإسلامي عند إعداد هذه الاتفاقية لهو مدعاة للمطالبة بمراجعتها، ولا يمكن وصفها بأنها اتفاقية دولية لأنها تطرح حلولاً لمشاكل المرأة تقوم على الفكر الغربي المادي العلماني الذي يهمش دور الدين في المجتمع، ولم يراعِ التباين الثقافي الواسع بين المجتمعات، واختلاف أوضاع المرأة ومشكلاتها من مجتمع إلى آخر، واختلاف الموروث التاريخي والديني والوضع الجغرافي والاقتصادي. فإن ما يصلح لحل مشاكل المرأة في الدول المتقدمة قد لا يصلح بالضرورة لحل مشاكلها في الدول الأخرى، كما أن تطبيق بعض بنود الاتفاقية سيقود إلى بروز تعقيدات أخرى جديدة على أرض الواقع. ثم إن المشكلات التي نجمت عن القيم الغربية تحمل الشك في صلاحيتها لتكون نموذجًا يحتذى به على نطاق العالم.
نصوص خطيرة
نصت الاتفاقية في مادتها الثانية على "إبطال القوانين والأعراف دون استثناء لتلك التي تقوم على أساس ديني، واستبدالها بقوانين دولية"، وهي بذلك تخول للاتفاقيات الدولية حق إلغاء القوانين والتشريعات الوطنية والدينية، وتمنح القانون الدولي الحاكمية والهيمنة على سائر الدساتير والتشريعات الوطنية، وفى ذلك مساس بسيادة الدول وتهميش لقيم وثقافات الدول النامية، وفرض ثقافة أحادية على الشعوب وعدم اعتراف بالتنوع الثقافي والديني. وبذلك فإن هذه المادة تتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة الذي نص على "احترام حقوق الاعتقاد والممارسة". وليس أدل على تعارض الاتفاقية مع أحكام الشريعة الإسلامية من أن ثمانية عشرة بندًا متفرقة في سبع من موادها تعارض قوانين الأسرة في الإسلام .

ومعلوم أن من حقائق الإسلام الثابتة أنه ليس عقيدة فحسب، بل هو عقيدة ونظام حياة يشمل جميع شئون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأحكام الأسرة فيه كأحكام الصلاة والصيام، والخروج على جزئية منه كالخروج منه كله، لقوله تعالى: (
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلا خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ العَذَابِ ومَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[البقرة:85]، كذلك قوله تعالى: (
ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً) [الأحزاب:36].
لقد منحت الاتفاقية المرأة حقوقًا دون أن تلزمها بواجبات، وذلك مدخل لكسب تأييد النساء لها، ومن البديهي أن الحق لابد أن يقابله واجب؛ ليقود إلى التوازن المطلوب في المجتمعات .
تطرح الاتفاقية المساواة المطلقة والتماثل التام بين الرجل والمرأة في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية والقانونية كحل أوحد وأساسي، مقننة بذلك ممارسة المرأة لجميع أنواع المهن، الشاقة منها واليسيرة، وتلقيها لنفس التدريب المهني المتقدم والمتكرر الذي يتلقاه الرجل، وكذلك لتتساوى مع الرجل حتى في تقلد كل المناصب على السواء مع الرجل ودون استثناء.
وتنادى الاتفاقية بتعميم موانع الحمل والترويج لها في الريف والحضر، وإدخال معلوماتها في مناهج التعليم لتقلل المرأة من إنجابها وتتفرغ للعمل المأجور خارج البيت، ونسبة لصعوبة التوفيق بين الإنجاب المتكرر الذي يشمل معاناة الحمل ورعاية الرضع بالإضافة إلى أعباء البيت والعمل معًا، فالمرأة العاملة كثيرًا ما تضطر لاستخدام موانع الحمل للتقليل من نسلها، وهذا ما أثبتته الإحصاءات التي أجرتها إحدى وكالات الأمم المتحدة في أربعين دولة نامية، وتبين من تلك الإحصاءات أنه كلما كثر عدد النساء العاملات كلما قل مستوى الخصوبة في الدولة.
وتفتح الاتفاقية المجال أمام الحرية الجنسية للفتاة في سن مبكرة، بينما حارب الغرب الزواج المبكر للفتاة في بعض الدول العربية، واعتبره إجحافًا في حقها وجريمة ضد جسدها الصغير .
وتقدم موادها المرأة وكأنها رجل في صفاتها وقدراتها، وهو نفس مفهوم الحركة الأنثوية (feminism movement) التي تدعي أن اختلاف المرأة والرجل ناتج عن البيئة والتنشئة وليس لاختلاف خصائصهما الفطرية؛ مما حدا بدعاة هذه الحركة لاستعمال لفظة النوع (Gender) ، وتطالب الاتفاقية المرأة بالقيام بجميع الأعمال التي يقوم بها الرجل، شاقة كانت أو يسيرة، وبذلك فهي تلقي على المرأة أعباءًا إضافية من أجل توفير لقمة العيش، وتجعلها تعيش في صراع نفسي بين متطلبات العيش وبين مشاعر الأمومة .
وتنظر الاتفاقية للمرأة كفرد وليس كعضو في أسرة يتكامل فيها الرجل والمرأة، وتجعلها في حالة صراع وتنافس دائم مع الرجل. وبالمقابل فإن الإسلام يسمو على معيار النوع (Gender)، ويجعل الالتزام الأخلاقي والتقوى معيارًا للتفوق لقوله عزّ وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [ الحجرات:13]. ولا يعنى ذلك أن الإسلام يعترض على عمل المرأة خارج بيتها، إذ لا يوجد نص شرعي يمنع المرأة من العمل، ما دام العمل مشروعًا وما دامت هي ملتزمة فيه بآداب الشرع، بحيث لا يكون على حساب أسرتها. يحدثنا التاريخ والسيرة أن بعض المسلمات في صدر الإسلام مارسن التجارة والزراعة والحرف اليدوية والتمريض، وشاركن في الجهاد وفي الشورى واختيار الخليفة وفي البيعة والهجرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى أنكرن على الخلفاء.
الإسلام ينصف المرأة

وحرَّم الإسلام التمييز بين الأولاد والبنات في المعاملة في الأسرة، ومنح المرأة حق التعليم والملكية والتصرف في أموالها قبل الزواج وبعده، وساوى بين الجنسين في الإنسانية والمسئولية والجزاء. وقد أحصى الباحثون مائة حق أعطاها الإسلام للمرأة. وقد برزت عالمات كبيرات على مدار التاريخ الإسلامي، وعلى رأسهن السيدة عائشة رضي الله عنها، التي قال عنها ابن أختها عروة بن الزبير: "ما رأيت أحدًا أعلم بطب ولا فقه ولا شعر من عائشة"، والمعروف أن السيدة عائشة أخذ عنها العلم كبار الصحابة، كما برزت كذلك الطبيبات والفقيهات وراويات الأحاديث .
إن تدنى أوضاع المرأة المسلمة الراهن لا يمكن أن ينسب لأحكام الشريعة، وكما يرى مالك بن نبى: "إن ذلك يحتاج إلى تجديد في المسلم، لا تجديد في الإسلام الذي كان أول تشريع يعطي المرأة حقوقًا واسعة". ويقول العلامة محمد الغزالي: "الذين ينادون بالمساواة التامة على أسـاس علماني هم أنفسهم يطالبون بعدم المســاواة في بعض الأمور؛ بسبب وضع المرأة الطبيعي الخاص، فيعفونها من العمل في: المناطق النائية، والأوقات المتأخرة، ومن الأعمال العنيفة في فترة الحمل".
ويرى محمد أبو القاسم حمدان: ضرورة طرح مفكري العالم الإسلامي لتصوراتهم حول فعالية دور المرأة المسلمة في مجتمعها بعمق في إطار المبادئ والقيم الإسلامية، فلا مساواة على الطريقة الغربية، ولا تعطيل لفعاليتها ودورها في المجتمع.
إن إخراج المرأة بهذه الصورة الشاملة التي تدعو لها الاتفاقية يضر بفئات المسنين والعجزة والأطفال داخل الأسر، وكم من شعارات واختراعات جديدة انبهر بها الناس أول الأمر ولكن لم تلبث أن أثبتت التجربة فشلها أو ضررها بالإنسان أو البيئة. وهذا ما يفرِّق بين القوانين الربانية والقوانين الوضعية، فالأولى تتميز بالثبات؛ لأنها من وضع الخالق العليم، والثانية تخضع للتجربة، فإما ثبت نجاحها فاستمرت أو فشلها فألغيت .
تحصلت المرأة في الغرب على حقوقها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بعد صراع وكفاح طويل وثورات على مفاهيم بالية، في حين أن الإسلام أعطى المرأة حقوقها منحة قبل أن تطالب بها، وهي موجودة في أصولنا الثقافية ولا نحتاج إلى التوقيع على المواثيق، ولكننا في حاجة إلى إحيائها وتنقيحها من العادات والتقاليد المخالفة للشرع، ومن التأويلات الخاطئة لبعض الفقهاء، والعمل على إزالة الظلم الواقع على المرأة في مجتمعاتنا.
كما أن مجرد استعادة الحقوق والامتيازات الممنوحة للمرأة في التشريع لا يكفي لتحسين وضعها، بل لابد من التوعية بها عن طريق التعليم ووسائل الإعلام المختلفة .
إذن قد تكون هذه الاتفاقيات نعمة تحمل في ظاهرها الرحمة للمرأة حين تضع ترسانة من القوانين الدولية لحمايتها، وتلزم بها كل الدول الموقعة عليها، وتحس المرأة المظلومة أن هناك من يقف إلى جانبها على المستوى الدولي، كما أنه قد ينحصر العنف المسلط على المرأة قليلاً بسبب العقوبات التي تسلط على من يعنف المرأة، لكن باطن تلك الاتفاقيات يحوي العذاب.. نعم العذاب للأسرة والمجتمع، حين يدمران بسبب اختلاف القيم بين من شرع تلك القوانين لمجتمعات غربية وبين من يطبقها في مجتمعاتنا المسلمة.
ولا يغيب على كل ذي لب أن الهدف من وراء كل ذلك هو القضاء على الأسرة التي هي صمام أمان المجتمعات المسلمة، والتي لن تخرب إن لم يقض على الثوابت عند المرأة خاصة؛ لأنهم ــ وهم يشرعون هذه القوانين ــ يعلمون يقينًا أن بصلاح المرأة يصلح المجتمع، فهي نصف المجتمع، والنصف الآخر يتربى على يديها، فهي كل المجتمع.
المصدر: حمس.نت بتصرف يسير.