شاع استعمال مصطلح الجندر أو الجندرة في أدبيات العديد من الأقلام، خاصة النسائية، وتم تداوله على نطاق كبير بمعنى مخالف لمعناه الحقيقي. والغريب في الأمر أن غالب هذه الأقلام لا يعوزها سعة الاطلاع ولا حسن الفهم، الشيء الذي يجعل تغليب حسن الظن أمرًا متكلفًا!
مفهوم الجندر
أصل المصطلح هو الكلمة الانجليزية (Gender)، وتعرف الموسوعة البريطانية (الهوية الجندريةGender Identity ) بأنها: "شعور الإنسان بنفسه كذكر أو أنثى، وفي الأعم الأغلب فإن الهوية الجندرية تطابق الخصائص العضوية، لكن هناك حالات لا يرتبط فيها شعور الإنسان بخصائصه العضوية، ولا يكون هناك توافق بين الصفات العضوية وهويته الجندرية (أي شعوره الشخصي بالذكورة أو الأنوثة)". وتواصل التعريف بقولها: "إن الهوية الجندرية ليست ثابتة بالولادة -ذكر أو أنثى- بل تؤثر فيها العوامل النفسية والاجتماعية بتشكيل نواة الهوية الجندرية، وهي تتغير وتتوسع بتأثير العوامل الاجتماعية كُلّما نما الطفل."
وهذا يعني أن الفرد من الذكور إذا تأثر في نشأته بأحد الشواذ جنسيًا فإنه قد يميل إلى جنس الذكور لتكوين أسرة، بعيدًا عن الإناث، وليس على أساس عضوي فسيولوجي، وإنما على أساس التطور الاجتماعي لدوره الجنسي والاجتماعي، وكذلك الأمر بالنسبة للفرد من الإناث!
وتواصل الموسوعة البريطانية تعريفها للجندر "كما أنه من الممكن أن تتكون هوية جندرية لاحقة أو ثانوية لتتطور وتطغى على الهوية الجندرية الأساسية (الذكورة أو الأنوثة)، حيث يتم اكتساب أنماط من السلوك الجنسي في وقت لاحق من الحياة، إذ إن أنماط السلوك الجنسي والغير نمطية منها أيضًا تتطور لاحقًا حتى بين الجنسين..."!! (1)
أما منظمة الصحة العالمية فتعرفه بأنه: "المصطلح الذي يفيد استعماله وصف الخصائص التي يحملها الرجل والمرأة كصفات مركبة اجتماعية، لا علاقة لها بالاختلافات العضوية". بمعنى أن كونك ذكرًا أو أنثى عضويًا ليس له علاقة باختيارك لأي نشاط جنسي قد تمارسه، فالمرأة ليست امرأة إلا لأن المجتمع أعطاها ذلك الدور، ويمكن حسب هذا التعريف أن يكون الرجل امرأة، وأن تكون المرأة زوجًا تتزوج امرأة من نفس جنسها، وبهذا تكون قد غيرت صفاتها الاجتماعية، وهذا الأمر ينطبق على الرجل أيضًا. (2)
تحريف التعريف
أين هذا التعريف مما يقدمه لنا دعاة الجندرة.. إنهم يقدمون المصطلح بمعنى تحرير المرأة وترقية دورها في التنمية، وبمعنى السعي لأجل إدخال إصلاحات لزيادة مساهمة المرأة في العمل وزيادة دخلها ونحو ذلك، وإن زادوا في الانصاف عرفوا المصطلح تعريفًا غامضًا مبتسرًا، وذلك بقولهم: مصطلح الجندر يعني: الفروقات بين الجنسين على أسس ثقافية واجتماعية، وليس على أساس بيولوجي فسيولوجي (3)، وترجمة المصطلح للعربية تختلف من مكان لآخر، فبعضهم يترجمه بـ (النوع الاجتماعي)، والبعض الآخر يجعله مرادفًا لكلمة Sex، والأغلب الأعم يكتفي من ترجمة الكلمة بتحويل الأحرف الإنجليزية إلى مقابلاتها في العربية!
هذا الغموض المتعمد لترجمة مصطلح الجندر للغة العربية كان واضحًا في كل وثائق مؤتمرات الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، بل إن النسخة الإنجليزية لمؤتمر بكين الدولي ذكرت المصطلح 254 مرة دون أن تعرفه! وتحت ضغط الدول المحافظة تم تشكيل فريق عمل لتعريفه، وخرجت لجنة التعريف بعدم تعريف المصطلح.
أما في مؤتمر روما لإنشاء المحكمة الدولية عام 1998، فقد وردت عبارة "كل تفرقة أو عقاب على أساس (الجندر) تشكل جريمة ضد الإنسانية"، وبعد اعتراض الدول العربية تم تغير كلمة Gender لكلمة Sex في النسخة العربية، وبقي الأصل الإنجليزي كما هو.(4) والدعوة بعد مطروحةٌ لدعاةِ الجندرة أن يُعرِّفوها لنا إن كان لهم تعريف يخالف ما ذكرته الموسوعات اللغوية والمنظمات الصحية.
مخاطر الجندرة
إن دعاة الجندرة في عالمنا الإسلامي -أدركوا أم لم يدركوا- يروجون لأفكار خـطيرة، أهمها:
أولاً- رفض أن اختلاف الذكر والأنثى مِن صنع الله، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} (النجم: 45-46).
ثانيًا- إذكاء روح العداء بين الجنسين، وكأنهما متناقضان متنافران، ويكفي لتأييد هذا الاتجاه مراجعة أوراق المؤتمر الدولي لتحديات الدراسات النسوية في القرن الحادي والعشرين، الذي نظمه مركز البحوث التطبيقية والدراسات النسوية في جامعة صنعاء باليمن، فقد كان مما جاء فيه الاعتراض على كثرة وجود اسم الإشارة للمذكر في اللغة العربية أكثر من المؤنث، وكذلك ضمائر المخاطبة للمذكر أكثر منها للمؤنث.
ثالثًا- العمل على إضعاف الأسرة الطبيعية الشرعية، التي هي لبنة بناء المجتمع السليم المترابط، ومحضن التربية الصالحة، ومركز القوة الروحية، ومفخرة الشعوب المسلمة في عصر الانحطاط المادي.
رابعًا- فرض فكرة حق الإنسان في تغيير هويته الجنسية وأدواره المترتبة عليها.
خامسًا- رفع المسؤولية عن الشواذ جنسيًا وإظهارهم بثوب الضحية التي جنى عليها المجتمع، وهذه محاولة قديمة تتشح بثوب العلمية أحيانًا وتأتزر بلباس بعض الأبحاث المغرضة -التي ترى أنّ هناك سببًا فسيولوجيًا في تركيب الدماغ يسبب الشذوذ- أحيانًا أخرى، وكلا القولين مردود، ذلك أنه لا أحد ينكر أن هناك عوامل مختلفة -المجتمع، تجارب الطفولة، الشيطان،... إلخ- تؤثر، وربما تدعو إلى الشذوذ، لكن كما يقول دكتور ستيفن أر.كوفي: "بين المؤثر والاستجابة توجد مساحة رحبة مِن حرية الاختيار"(5)، وهذه هي المسؤولية التي يحاسب العبد بموجبها، وينتفي الحساب بانتفائها، كما في حالة المجنون والصبي ونحوه.
سادسًا- الاعتراف بالشذوذ الجنسي، وفتح الباب لإدراج ما يسمى بحقوق الشواذ، من زواج المثليين، وتكوين أسر غير نمطية (Non Stereotyped families)، والحصول على أبناء بالتبني ضمن حقوق الإنسان.
سابعًا- التقليد الأعمى للاتجاهات الجنسية الغربية المتطرفة، والتي امتدت حتى شملت الموقف من الذات الإلهية في بعض الأحيان، فكما سمعنا أن جمعية الكتاب المقدس أصدرت ترجمة جديدة للكتاب المقدس تتسم بالحيادية في مخاطبة الجندر(6)، وقد سمعنا في مؤتمر صنعاء المشار إليه آنفًا من تقول: "إن أقدم كتاب كرّس محو الأنثى وكرّس سلطة الذكورية، كان في التوراة ابتداءً بفكرة الله المذكرة"(7). تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
ختامًا، الجندرة شرّ بادئٌ في بلدنا، له دُعاته العالمون ببواطنه، كما له أبواقه من الذين يتكلمون بما لا يعرفون، فكم نَضَحَت وسائل الإعلام بأصوات تناقش مواضيع قَوَامَة الرجل، والعلاقة بين الجنسين، ونحو ذلك من فاكهة مجالس الثقافة في أيامنا هذه بنظرة غربية بعيدة عن الإسلام، هذه النظرة المتنامية بفعل عوامل عديدة -ليس المجال هنا لتفصيلها- خطر ماحق يتهدد مرجعيتنا، ويعمل على مسخ شخصيتنا، ويخدم أعداء أمتنا؛ لذا لزم التذكير {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال: 42).
موضوعات ذات صلة:
____________
* المصدر: صيد الفوائد.
(1) حتى لا يظن أحد أننا تجنينا على دعاة الجندرة في الترجمة، نرجو الرجوع لموقع الموسوعة البريطانية : Encyclopedia Britanica على شبكة الانترنت.
(2) انظر: مشروع الجندر من وثائق الأمم المتحدة، للباحثة صباح عبده، ص5.
(3) انظر: وثائق المؤتمر العالمي للسكان والتنمية، تحت العنوان الجانبي ترجمة مصطلح الجندر.
(4) مشروع الجندر من وثائق الأمم المتحدة، مرجع سابق ص7.
(5) انظر مقالنا بعنوان التغيير بين المسؤولية والانفعالية.
(6) مفكرة الإسلام، نقلاً عن الواشنطن بوست.
(7) هي الباحثة الأردنية زليخا أبو ريشة، انظر: النسوية النوعية في سطور، للباحثة صباح عبده.