
يشكل مصطلح النسوية الإسلامية مجموعة من التناقضات المثيرة للدهشة، فالنسوية فلسفة غربية تعني في أبسط تصور لها أن تكون الأنثوية هي المعيار الذي يُنظر منه إلى العالم، وتعمل على تفكيك البنى المجتمعية التي تصفها بالتقليدية أو النمطية، وتتبنى رؤية جديدة لطبيعة العلاقة بين الجنسين، ووفقا للنسوية فلابد من محو أي اختلاف بينهما باعتباره تمييزًا، وصولاً لما يطلق عليه النوع الإنساني أو الجندر.
أما الإسلام، دين الله الخالد والخاتم، فكما هو معلوم اهتم بقضايا النساء، حتى أنه سمّى سورة من أطول سوره باسم سورة "النساء"، ووفقا لرؤية متكاملة متوازنة وضع حزمة من الحقوق تقابلها مجموعة من الالتزامات والمسئوليات.
أما المعيار الذي دشنه الإسلام لرؤية العالم فهو معيار لا ذكوري ولا أنثوي، وإنما هو معيار إلهي، بمعنى أن ينظر الإنسان -ذكرًا كان أو أنثى- لأي قضية بمعيار: هل هذا أمر يحبه الله ويرتضيه أم يكرهه ولا يقبله؟ ومن هنا كان الخلط بين المصطلحين -الإسلام والنسوية- غامضًا أو مشوشًا أو ماكرًا خبيثًا؛ فالفلسفة التي يقوم عليها كل منهما مختلفة، والقيم التي يقوما عليها مختلفة، وكذلك الأهداف.
حول المصطلح
الحقيقة أن هناك طائفتين تستخدمان هذا المصطلح "النسوية الإسلامية": الأولى تستخدمه بمعنى الحقوق النسائية الإسلامية أو حقوق المرأة في الإسلام، تلك الحقوق العظيمة التي نالتها المرأة في صدر الإسلام، وما لبثت أن أهدرت هنيهة هنيهة، مع تراجع الكثير من المبادىء والحقوق التي جاء بها الإسلام، ووصول المسلمين لحالة من التردي الحضاري، كان للمرأة نصيب كبير منها.
هذه الطائفة تدعو لتحرير المرأة -كما حدث في عصر الرسالة- وفقًا للقرآن والسنة الصحيحة، وتدعو للاجتهاد في العديد من المسائل التي لم يرد فيها نص قاطع، خاصة مع تغير الظروف الاجتماعية والسياسية عن العصور السابقة، هذا الطرح يعبر عن وجهة نظر جديرة بالاحترام والتقدير والمناقشة، وإذا تم تفعيله على نحو رصين وصادق.. قد يكون له تأثير بالغ الأهمية على أرض الواقع، ليس للمرأة المسلمة فحسب وإنما للمسلمين عامة.
ما يعيب هذه الرؤية حقًا هو استخدامهم لهذا المصطلح المشوه "النسوية"، وذلك لأن المصطلح محمل بقيم وأفكار ومعان وتجارب بالغة السوء، لا يمكن أن يتم تخليصه منها، فإذا كان المفكرون الإسلاميون الذين يستخدمونه لما يحمل من قيم حقوقية، فمن الممكن استبداله بمصطلح "نسائية"، فيدعون للحقوق الإسلامية النسائية أو حقوق النساء في الإسلام.
قد يقول البعض أنه لا مشاحة في الاصطلاح، لكن الحقيقة أن هذا ينطبق على المصطلح المحايد أو الأقرب للمحايدة، أما المصطلح المنغمس حتى أذنيه في أفكار مشوهة وتطبيقات عفنة[1]، فإنه لا يجوز استخدامه إلا في حالة ضبابية الرؤية الذاتية، التي قد تصل لدرجة الهزيمة الحضارية.
التدمير الذاتي

الطائفة الثانية التي تستخدم مصطلح "النسوية الإسلامية"، هي الأشد خطرًا، فهي تسعى لفرض النسوية الغربية، ولكن بطريقة بالغة الدهاء، حيث تسعى هذه الطائفة لإقناع المسلمين والمسلمات أن ما جاءت به النسوية الغربية هو عين ما يدعو إليه الإسلام، وبالتالي فلا داعي لمقاومة أو نقد النسوية، فهي مجموعة من الأفكار الإنسانية الراقية التي تتطابق مع جاء به الإسلام، وتتزعم هذه الأطروحة عدد من المستشرقات اللاتي قمن بصك المصطلح من أجل القبول به وترويجه في البلدان الإسلامية، فأصبحنا نتحدث عن النسوية الإسلامية والجندر الإسلامي!
بحيث تضيف كلمة إسلامي هذه ارتياحًا نفسيًا وجواز مرور داخل المجتمعات الإسلامية، فلا تلقى هذه الأفكار النكدة المقاومة التي كانت تقابلها عندما تسعى في زحفها لهزيمة الذات الحضارية للأمة، إنهم يسعون لعملية تفكيك داخلية، بحيث لا تلقى عملية التفكيك تلك أي مقاومة، فليس العدو هو من يحاول تفكيكك وإنما أنت من تقوم بتفكيك نفسك ذاتيًا.
إنهن يفعلن أي شيء من أجل نشر فكرهن المريض، حتى لو أدى بهن الأمر إلى تملق الدين الذين لا يؤمنون بأي دور له في الحياة، إنهن يعشقن العلمانية، ويرين أنها الشكل المثالي للحياة، ولكنهن -وعلى الرغم من ذلك- لا يرفضن التماهي مع ما يطلق عليه الإسلام السياسي، واستخدام أدواته كما يفهمنها من أجل الوصول لأهدافهن، إنهن يستخدمن هذا التماهي كبداية وفتح ثغرة، تقول فالانتين موغادام -الباحثة النسوية وعالمة الاجتماع الأمريكية-: "وبالنظر إلى الواقع الاجتماعي والسياسي الحالي في العالم الإسلامي، فمن الممكن النظر إلى النسوية الإسلامية باعتبارها بداية أكثر واقعية، وقربًا لتحقيق إصلاح في العلاقات بين الجنسين، ليس فقط كطريق استراتيجي لنيل شرعية دينية في مواجهة رجال الدين المسلمين، وإنما أيضًا لأنها تصلح لإضعاف مقاومة الرأي العام وجعلها في أضيق نطاق، وبالتالي توسيع القاعدة الداعمة للنضال من أجل حقوق المرأة في المجتمعات المسلمة).[2]
بصيغة أخرى، إنهن يبجلن الإسلام من أجل هدم الإسلام، ودون أن يُتهمن بالخيانة والعمالة للغرب، "بل قمن بصياغة العديد من المقترحات لإصلاح الوضع، ولكن بنفس اللغة وداخل نفس الإطار الديني. ويمكن لصوت النسوية الإسلامية أن يتحدى الخطاب السائد في النظم الإسلامية، والاستراتيجية المتبعة في ذلك هي استخدام الأوصاف الإسلامية كسلاح ضد المسؤولين عن إطلاق هذه الأوصاف، أي النظام الإسلامي. وبهذه الطريقة يتحدين التأويلات المعادية للنساء في النصوص الأساسية في الإسلام، ويقمن بتفكيكها في الوقت نفسه. وعندما يؤكدن هويتهن الدينية والقومية، يستطعن نفي أي اتهام لهن بـ(الخيانة الثقافية)".[3]
آليات التفكيك
وحتى تتم عملية التفكيك الداخلية هذه للذات الحضارية المسلمة، فإنه يتم الترويج لعدد من الأفكار الهدامة، واستخدامها كآليات للتفكيك، ومنها:
1- المنهج المعرفي للإسلام يُستمد من القرآن الكريم فقط؛ لأنه هو الذي تكفل الله بحفظه، ويشككون في السنة النبوية، ولا يعتمدون عليها في منهجهم المعرفي، وهذه الدعوة لاستبعاد السنة النبوية لم ترتبط بهؤلاء النسويات المستشرقات فحسب، وإنما هي الدعوى التي استخدمها الكثيرون لهدم الإسلام، عن طريق استبعاد المصدر الثاني للوحي، الذي يشرح ويوضح ويطبق ما جاء في المصدر الأول.
2- رفض واستبعاد كل الجهود التي قام بها المفسرون لشرح كتاب الله تعالى، وإن كان هذا الرفض يقوم على برجماتية واضحة، من خلال اختيار بعض التفسيرات أحيانًا أو الاستعانة بأسباب النزول في أحيان أخرى.
3- الاهتمام الشديد بأسباب النزول، بحيث يتحول القرآن لعدد من الوقائع الخاصة، التي لا تتفاعل ولا تخص إلا أصحابها فقط، ويتحول القرآن لكتاب تاريخي بلا أحكام شرعية، كتاب روحي فيه عدد من القيم الخلقية، وبعض النظرات التأملية.. ليس أكثر، ويفقد قدرته على الدفع وعلى التفاعل وعلى التغيير.
4- الهجوم الشديد على الفقهاء، وتتبع أي عثرة لهم، حتى أنك تتخيل أنهم يتحدثون عن كهنة الكنيسة، وكأن الفقهاء هم قوم لا خلاق لهم، وكأنهم قاموا بمؤامرة بشعة من أجل هدم أحكام الإسلام واستبدالها بآرائهم الخاصة وتقاليدهم البالية.
5- أما النقطة الأهم، فهي استخدامهم المنهج اللغوي في تحليل القرآن، ودعوة العامة لذلك أيضًا، فإذا نظرنا للأغلبية الساحقة منهم وجدنا أن العربية ليست لغتهم الأم، وهم لم يدرسوها الدراسة اللازمة والكافية، فكيف يجرؤون على اقتحام مجال التفسير!
ثمة فارق شاسع بين التدبر والتفسير، وبطريقتهم -لاقتحام التفسير- سوف نصل لنتائج لا نهائية من التفسيرات، وفقًا للهوى الشخصي، ونسقط في فخ النسبية المطلقة التي تقود للعدمية، كمدارس نسوية ما بعد الحداثة.
تقول إحداهن: "إن حقوق المرأة بترت بسبب غلبة المنظور الذكوري لعدة قرون، فقد شاع تفسير معين لآيات القرآن الكريم لم يكن دائماً كاملاً ودقيقاً، بل كان متأثراً بذلك المنظور الذكوري؛ ولهذا تدعو النساء لأن يجهدن أنفسهن لقراءة القرآن الكريم مجدداً من منظور أنثوي؛ بقصد الدفاع عن حقوقهن".[4]
الجدير بالذكر أن هؤلاء المستشرقات النسويات يسعين بالفعل لوضع خطط عملية على الأرض؛ من أجل اقتحام المجتمعات المسلمة، متسلحات بادعاء توقير الدين والإسلام، كعنوان حتى يحطمن مقاومة الشعوب، فهل ننتبه لهن ونسعى لتفكيك وهدم مخططاتهن؟
___________
* المصدر: موقع الراصد، 5/11/2013.
[1] راجع مقالي: النسوية والردة إلى العصر الوثني، مجلة الراصد، العدد 100، ومقالي: تحرر المرأة والإرهاب النسوي، مجلة الراصد، العدد 125.
[2] ثنائية النسوية والإسلام في البحث عن نهج واستراتيجية، لاني اكتوفيا، ترجمة صفية مسعود. والكلام للباحثة النسوية وعالمة الاجتماع الأمريكية فالانتين موغادام.
[3] المصدر السابق.
[4] هي الدكتورة ميسم الفاروقي، محاضرة في الدراسات الإسلامية، قسم اللاهوت بجامعة جورج تاون في واشنطن، نقلاً عن مقال (المرأة المسلمة والنسوية الإسلامية) لزكي الميلاد.